سبق وأن أشرت في الحلقة السابقة (الأسبوع قبل الماضي) إلى أنّ جملة من العوامل أظهرت الوسط العلماني (قومي ،ليبرالي ،يساري) مضطرباً بفعل عوامل تصل حد التناقض، في مسألة الثقة بالإسلاميين المشاركين في صناعة التحول السياسي والممارسة الديمقراطية في المنطقة العربية.
وحقيقة الأمر وواقع الحال ـ ومع ظهور دعوات علمانية تؤمن بشراكة سياسية مع الحركة الإسلامية في صناعة التغيير ـ إلا أنها تظل ضعيفة بين جملة من الآراء المتناقضة ذات النّفَسْ الكلاسيكي السائد والقائل: بأن شراكة الاسلاميين عودة لانتاج النظام الشمولي، وأن الدين عائق في بناء الديمقراطية، ويقودنا هذا التناقض إلى انتاج مبررات صراع علماني مع الدين، ظاهره الصراع مع الحركة الإسلامية في المنطقة العربية.
ولذلك لم يتورع العلمانييون عن تأييد الأنظمة الشمولية في المنطقة العربية منذ عقود بالترويج لمصطلحات منشأها من الغرب وروجها علمانيو العالم العربي مثل (الإسلام السياسي) و(الأصولية) و(التطرف)، وبعد ثورات الربيع العربي برز مصطلح (الأخوَنة)، في إشارة إلى تجسيد فصل الدين عن السياسة، وتجريم ممارسة الحركة الإسلامية السياسة إلى درجة تصل حد الشيْطنة.
وهذه بحد ذاتها ساهمت إلى حد كبير في التماهي مع افراغ محتوى (ثورات الربيع العربي) من قبل خصوم التغيير في المنطقة وداعميهم في الغرب، بحجج منها قطع الطريق أمام سيطرة الاسلاميين _دي القاعدة الجماهيرية العريضة _ على الحكم ، أو ما يعتقدونها إعادة انتاج الشمولية والنظام (الثيوقراطي).
(إعادة النظر في تطوير التجربة)
يثبت المشهد أنّ الرؤية الغربية لحماية الديمقراطية في العالم أصيبت بخلل الكيل بمكيالين ؛ ولم تعد موضع ثقة، وكأنّها تسوّق الديمقراطية بأوجه متعددة، وجه يمزق النسيج السياسي والاجتماعي العربي، على خلاف الوجه الآخر الذي يجمّع المجتمع السياسي الغربي؛ عكست هذه الرؤية عن ولادة بيئة سياسية حرّة تميزت بديناميكية أجبرت فريق من العلمانيين على الاشتراك في هذا التفاعل مع الإسلاميين، خلال سنوات الربيع العربي.
لكن بالمقابل مايزال هواجس خشية العلمانية من نجاح الاسلاميين في تطويع الديمقراطية كأداة عالمية في وصولهم للحكم، بعد النجاح الكبير الذي حققوه في التوسع الجماهيري، واستفادتهم من شرعية الشعوب وميادين التغيير السلمية؛ في وقتٍ أخفقت الأنظمة العلمانية على مدى نصف قرنٍ من الزمان في تحقيق الديمقراطية أو الخروج من عباءة الشمولية والماضوية، وترجمة شعاراتها المرفوعة في البناء والتنمية ومحاربة الاستبداد والتسلط.
ومما سبق ولكي تتحقق شراكة فعلية بين العلمانيين والإسلاميين في صناعة التحولات السياسية؛ فلابد من إذابة (الأنا) الأيدلوجية أولاً، وانطلاق طرفي الشراكة من أرضية مشتركة، و متجددة توطن الفكر الديمقراطي داخل رؤاها الفكرية والسياسية، خصوصاً أنّ ثمة خلاف في هذه المسألة داخل الطيف العلماني.
فالفكر الماركسي العربي مثلاً يظل في مأزق، مادامت الديمقراطية لديه واحدة من مراحل الانتقال إلى الاشتراكية، والتيار القومي ينظر للديمقراطية وفق نسقه الفكري، والليبرالية كذلك، والمحصلة انتاج مزيد من التناقضات الفكرية المهددة للهوية الوطنية والسياسية، والتي تصنع الاستبداد ذاته وتبررله.
ضرورة اعتراف العلمانيين بالحراك المجتمعي والشعبي المواكب لسنن التغيير، والثقة بمخرجات ثورات الربيع العربي وإعادتها إلى مساراتها الصحيحة، بعد تماهي نخب علمانية وصلت حد التأييد لوأد العسكر انظمة ديمقراطية وليدة من رحم التغيير السلمي والحراك الشعبي.
الابتعاد عن المناكفات السياسية والمماحكات، وترك الارتهان للأجندات الخارجية الحريصة على تسويق وجه الديمقراطية المُمَزِّق لا المُجمِّع للنسيج السياسي العربي.
المراجعات الجادة في الأبجديات الفكرية والأيدلوجيات بما يسهم في تطوير المسار الجمعي الديمقراطي، ويحقق تقدماً في بناء الشراكة الحقيقية بين جميع الأطراف ويحمي الهوية والعمق الاستراتيجي الوطني والسياسي، والخروج من دائرة الماضوية والعموميات التي تعيق التقارب وتقود للفشل.