اتفق الإسلامييون والعلمانييون (يسار وليبرالي وقومي) على رفع شعار موحد (الشعب يريد اسقاط النظام) ، وهدف تحقيق الدولة المدنية القائمة على أساس الشراكة والعدالة المتساوية والحكم الرشيد وعدم الإقصاء ؛ حين بلغ فساد أنظمة الحكم العربي ذروته، وبلغ السيل الزبا، واضحى الحاكم العربي يتفنن في طرق توريث الحكم ، جاعلاً إراداة الشعب بأطيافه المختلفة في ذيل أولوياته وآخر اهتماماته.
أثمر هذا التقارب انفجار ثوري شعبوي سلمي في المنطقة العربية _ بادر المطبخ الإعلامي الغربي لنعته بـ "الربيع العربي" لحاجة في نفس يعقوب _ فانطلق قطار التغيير بشرارة ثورة الياسمين التونسية، واستلهم الشارع العربي من ثورة يناير المصرية دوره في أهمية التغيير، وتحركت الشعوب في أكثر من بلد عربي، وصمد الناس في الميادين بألوان الطيف السياسي وواحدية الهدف والشعار ، فبدأت الأنظمة تتهاوى كأوراق الخريف (بحسب قول الرئيس السابق علي صالح) ، وبدأت الديمقراطية تمارس دورها في تونس ومصر وليبيا واليمن...
وما يعنيني في هذا الاستهلال _ بصرف النظر عن الدينامو المحرك _ هو حقيقة الشراكة الشعبية في صناعة التحول السياسي وتحريك عجلة التغيير في المنطقة العربية ، بين الاسلاميين والعلمانيين... وهل بالإمكان تطوير التجربة أم إعادة النظر في استراتيجياتها.
(شراكة خلاف أم اتفاق)
يبدو أنّ أطراف التغيير (الإسلامي العلماني) وجدوا انفسهم محشورين في زاوية اضطرارية وحّدت شعاراتهم وأهدافهم لصناعة تحول سياسي، في مواجهة شمولية واستبدادية الأنظمة؛ لكنهم لم ينجحوا في إذابة (الأنا) الأيدولوجية والفكرية، التي برزت للأسف كأحد العوائق، في أهم مراحل التغيير.
إذ يرى الكثير من المراقبين أن الوسط العلماني بمدارسه الفكرية المتنوعة (اليسارية والليبرالية والقومية) ظهر مضطرباً بفعل عوامل تصل حد التناقض، في مسألة الثقة بالإسلاميين المشاركين في صناعة التحول السياسي والممارسة الديمقراطية، خصوصاً أن الأخير بدا متمسكاً بخيار الديمقراطية ، في بلدان الربيع العربي. وأثبتت أحداث الانقلاب العسكري في مصر على الدولة المنتخبة ديمقراطياً في 3 يوليو 2013م ، تقارب علماني مع الأنظمة الشمولية ، حين سارع غالبية العلمانيين المشاركين في ثورة (يناير) إلى تبرير الانقلاب العسكري والدفاع عنه.
ويعزو كثيرون هذا التقارب في المنطقة العربية ككل إلى جملة من العوامل أهمها: تمسك غالبية العلمانيين برؤية الفلسفة الغربية للعلمانية ، وبفكرها العتيق الذي ينظر للدين أحد عوائق الديمقراطية(على خلاف التجربة في أمريكا اللاتينية)، ومنها اشتراط بعض العلمانيين _ وإن ابدوا تقارباً مع الحركة الإسلامية في النضال _ حذو الاسلاميين للأحزاب الدينية المسيحية في العمل السياسي، ومنها آثار خلافات العلمانيين الفكرية على السلوك السياسي العلماني نفسه.
ويؤكد سياسيون وقوع العقل العلماني العربي بأزمة انشغاله بهدم الأسس (الأيدولوجية) لاعتقاده أنها تربة الاستبداد ، ولأنّ دوافعه في ذلك (أيدولوجية) وهي محاربة التوسع الجماهيري الكبير للإسلاميين؛ وقع في مساندة السلطوية على حساب الديمقراطية.
ومن المفارقات العجيبة وقوع بعض النخب العلمانية _ بحجج معارك التكتيك _ في خانة الارتزاق ، لتنفيذ أجندات الاستبداد ، الممولة من أنظمة اللاديمقراطية العربية وخصوم التحولات السياسية في المنطقة، وتماهيها مع الرؤية الأمريكية المتناقضة في حماية الديمقراطية وثورات(الربيع العربي)، الرؤية التي تكفر بالديمقراطية حين يمارسها الإسلامييون وتؤمن بها لغيرهم...في الوقت التي ما زالت شعارات علمانية تناهض الاستبداد والشمولية في المنطقة العربية مرفوعة، وتطالب بالتحرر من القيود الامريكية والغربية في رسم السياسات...
يتبع في الحلقة القادمة...